سورة النمل - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ} {حشر} جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل: {وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام، فيقال: كان معسكره مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للانس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. ابن عطية: واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملا الأرض، وانقادت له المعمورة كلها. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون. قال قتادة: كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها. يقال: وزعته أوزعه وزعا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبى بكر قالت: لما وقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي طوى- تعنى يوم الفتح- قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته: أظهري بى على أبى قبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ما ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا. قال: ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر قيل: وما رأى يا رسول الله؟ قال: أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة» خرجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر:
ولما تلاقينا جرت من جفوننا *** دموع وزعنا غربها بالأصابع
آخر:
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى *** من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل: هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف.
وفي القصة: إن الشياطين نسجت له بساطا فسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة.
الثانية: في الآية دليل على اتخاذ الامام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض، إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
وقال ابن عون: سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال: والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة.
وقال الحسن أيضا: لأبد للناس من وازع، أي من سلطان يكفهم.
وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: ما يزع الامام أكثر مما يزع القرآن، أي من الناس. قال ابن القاسم: قلت لمالك ما يزع؟ قال: يكف. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال: فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها، وقصروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها، ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور.


{حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ} قال قتادة: ذكر لنا أنه واد بأرض الشام.
وقال كعب: هو بالطائف. {قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ} قال الشعبي: كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه. وقد مضى هذا ويأتي. وقرأ سليمان التيمي بمكة: {نملة} و{النمل} بفتح النون وضم الميم. وعنه أيضا ضمهما جميعا. وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها. قال كعب: مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف، فأتى على وادي النمل، فقامت نملة تمشى وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم، فنادت: {يا أَيُّهَا النَّمْلُ} الآية. الزمخشري: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال، وكانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس، وقيل: كان اسمها طاخية.
وقال السهيلي: ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام، وقالوا اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمى بعضهم بعضا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة منهم باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بنى آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامهه وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير، فليس اسم النملة من هذا، لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوه فله وجه، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه. ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} التفاتة مؤمن. أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله: {ضاحِكاً} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، ولا يسر نبى بأمر دنيا، وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين. وقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدين والعدل والرأفة. ونظير قول النملة في جند سليمان {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قول الله تعالى في جند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن. إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمثني على جند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الله عز وجل بنفسه، لما لجنود محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفضل على جند غيره من الأنبياء، كما لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقرأ شهر بن حوشب: {مسكنكم} بسكون السين على الافراد.
وفي مصحف أبي: {مساكنكن لا يحطمنكم}. وقرأ سليمان التيمي {مساكنكم لا يحطمنكن} ذكره النحاس، أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم قال المهدوي: وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان.
وقال وهب: أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان، بسبب أن الشياطين أرادت كيده. وقد قيل: إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد، قاله الكلبي.
وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم.
وقال بريدة الأسلمي: كهيئة النعاج. قال محمد بن على الترمذي: فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة، وذلك منطقهم، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. قلت: وقوله: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي، إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطي، والله أعلم. وقال: {ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لان النمل هاهنا أجرى مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون. قال أبو إسحاق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل؟ أخفت ظلمي؟ أما علمت أنى نبى عدل؟ فلم قلت: {يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ} فقالت النملة: أما سمعت قولي {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مع أنى لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتن بالدنيا، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان: عظينى. فقالت النملة: أما علمت لم سمى أبوك داود؟ قال: لا. قالت: لأنه داوى جراحة فؤاده، هل علمت لم سميت سليمان؟ قال: لا. قالت: لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك. ثم قالت: أتدري لم سخر الله لك الريح؟ قال: لا. قالت: أخبرك أن الدنيا كلها ريح. {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت: هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله؟ قالوا: وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت: حسنة، ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الانس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله *** وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره *** لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه *** فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله *** وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها: بارك الله فيكم، فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله.
وقال ابن عباس: نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة، خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق وروى من حديث أبي هريرة. وقد مضى في الأعراف فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور، ولذلك نهى عن قتلها، وعن قتل الهدهد، لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس.
وقال عكرمة: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. والصرد يقال له الصوام. وروي عن أبي هريرة قال: أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي. وقد تقدم في الأعراف سبب النهى عن قتل الضفدع وفي النحل النهي عن قتل النحل. والحمد لله.

الثانية: قرأ الحسن: {لا يحطمنكم} وعنه أيضا {لا يحطمنكم} وعنه أيضا وعن أبى رجاء: {لا يحطمنكم} والحطم الكسر. حطمته حطما أي كسرته وتحطم، والتحطيم التكسير، {وهم لا يشعرون} يجوز أن يكون حالا من سليمان، وجنوده، والعامل في الحال {يَحْطِمَنَّكُمْ}. أو حالا من النملة والعامل {قالَتْ}. أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود، كقولك: قمت والناس غافلون. أو حالا من النمل أيضا والعامل {قالَتْ} على أن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها. وفية بعد وسيأتي.
الثالثة: روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح» وفي طريق آخر: «فهلا نملة واحدة». قال علماؤنا: يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرا ونقمة على العاصي. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله.
وروى عن إبراهيم: ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله: «الا نملة واحدة» دليل على أن الذي يؤذى يؤذى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء. وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها، لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: ألا نملة مكان نملة، فعم البرئ والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل: إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: «فهلا نملة واحدة» أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى عن التعذيب بالنار. وقال: «لا يعذب بالنار إلا الله». وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي، فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهى عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل: إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد، وكان الأولى الصبر والصفح، لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بنى آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب. والله أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه.

الرابعة: قوله: «أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح» مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام- وهذا معجزة له- وتبسم من قولها. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا، لكن لا يسمعه كل أحد، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي. ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك، فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه. ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية. وإياه عني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم». وقد مضى هذا المعنى في تسبيح الجماد في سبحان وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال. والحمد لله.
الخامسة: قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها} وقرأ ابن السميقع: {ضحكا} بغير ألف وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم، كأنه قال ضحك ضحكا، هذا مذهب سيبويه. وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس {فَتَبَسَّمَ} لأنه في معنى ضحك. ومن قرأ: {ضاحِكاً} فهو منصوب على الحال من الضمير في {تبسم}. والمعنى تبسم مقدار الضحك، لان الضحك يستغرق التبسم، والتبسم دون الضحك وهو أوله. يقال: بسم بالفتح يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم، فالتبسم ابتداء الضحك، والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء، إلا أن الضحك يقتضى مزيدا على التبسم، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه. والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم.
وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له: أكنت تجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: نعم كثيرا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح- أو الغداة- حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم. وفية عن سعد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ارم فداك أبي وأمي» قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نظرت إلى نواجذه. فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم. وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات. وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه. وقد كره العلماء منه الكثرة، كما قال لقمان لابنه: يا بنى إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. وقد روى مرفوعا من حديث أبي ذر وغيره. وضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه حين رمى سعدا الرجل فأصابه، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته، فإنه المنزه عن ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

السادسة: لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول. وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية: والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع، لأنها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة. قال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها، قال الأستاذ أبو المظفر شاهنور الاسفرايني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات، ووحدانية الاله، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية. قوله تعالى: {وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ} فـ {أَنْ} مصدرية. و{أوزعني} أي ألهمني ذلك. وأصله من وزع فكأنه قال: كفني عما يسخط.
وقال محمد بن إسحاق: يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ص إن شاء الله تعالى. {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} أي مع عبادك، عن ابن زيد.
وقيل: المعنى في جملة عبادك الصالحين.


{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)}
فيه ثمان عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم. والتفقد تطلب ما غاب عنك من شي. والطير اسم جامع والواحد طائر، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير، فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والتهمم بكل جزء منها، وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة: بل تفقد الطير لان الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير، ليتبين من أين دخلت الشمس.
وقال عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها، فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة، تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة، قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام. قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبد الله بن سلام: أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل. قال: أتسألني وأنت تقرأ القرآن؟ قال: نعم ثلاث مرات. قال: لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه- أو قال مسافته- وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده.
وقال في كتاب النقاش: كان الهدهد مهندسا. وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له: قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه؟! فقال له ابن عباس: إذا جاء القدر عمي البصر.
وقال مجاهد: قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد مهتديا إليه، فأراد أن يسأله. قال مجاهد: فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده؟ قال: إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي: ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن. قلت: هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم. وأنشدوا:
إذا أراد الله أمرا بامرئ *** وكان ذا عقل وراي ونظر
وحيلة يعملها في دفع ما *** يأتي به مكروه أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله *** وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه *** رد عليه عقله ليعتبر
قال الكلبي: لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم.
الثانية: في هذه الآية دليل على تفقد الامام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته، قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. الحديث، قال علماؤنا: كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط.
كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الامام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال. ورحم الله بنالمبارك حيث يقول:
وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها
الثالثة: قوله تعالى: {ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي ما للهدهد لا أراه، فهو من القلب الذي لا يعرف معناه. وهو كقولك: مالي أراك كئيبا. أي مالك. والهدهد طير معروف وهدهدته صوته. قال ابن عطية: إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز. والاستفهام الذي في قوله: {ما لِيَ} ناب مناب الالف التي تحتاجها أم.
وقيل: إنما قال: {ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ}، لأنه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم، وسخر له الخلق، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه، فقال: {ما لِيَ}. قال ابن العربي: وهذا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم، تفقدوا أعمالهم، هذا في الآداب، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض!. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب: {مالي} بفتح الياء وكذلك في يس: {وما لي لا أعبد الذي فطرني}. وأسكنها حمزة ويعقوب. وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو: بفتح التي في يس وإسكان هذه. قال أبو عمرو: لان هذه التي في النمل استفهام، والأخرى انتفاء. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان {فَقالَ ما لِيَ}.
وقال أبو جعفر النحاس: زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله، وهذا ليس بشيء، وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها، فقرءوا باللغتين، واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة، لأنها اسم وهي على حرف واحد، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف بالاسم. {أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ} بمعنى بل.
الرابعة: قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه. قال ابن جريج: ريشه أجمع.
وقال يزيد بن رومان: جناحاه. فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته، وكان الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع. والله أعلم. وفي نوادر الأصول قال: حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الايادي، قال حدثنا عون بن عمارة، عن الحسين الجعفي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة، قال: إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. وسيأتي.
وقيل: تعذيبه أن يجعل مع أضداده. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل: لالزمنه خدمة أقرانه.
وقيل: إيداعه القفص.
وقيل: بأن يجعله للشمس بعد نتفه.
وقيل: بتبعيده عن خدمتي، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه. وهو مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي أو الخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت {لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه} جاز. {أو ليأتيني بسلطان مبين} أي بحجة بينة. وليست اللام في {لَيَأْتِيَنِّي} لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في أثر قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. وقرأ ابن كثير وحده: {ليأتينني} بنونين.
الخامسة: قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد. والجمهور من القراء على ضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها. ومعناه في القراءتين أقام. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا. قال: ومكث مثل ظرف. قال غيره: والفتح أحسن لقوله تعالى: {ماكِثِينَ} إذ هو من مكث، يقال: مكث يمكث فهو ماكث، ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث، مثل عظيم. ومكث يمكث فهو ماكث، مثل حمض يحمض فهو حامض. والضمير في {مكث} يحتمل أن يكون لسليمان، والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل. ويحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر. فجاء: {فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} وهي:
السادسة: أي علمت ما لم تعلمه من الامر فكان في هذا رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب.
وحكى الفراء {أحط} يدغم التاء في الطاء. وحكى {أحت} بقلب الطاء تاء وتدغم.
السابعة: قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. وقرأ الجمهور {سَبَإٍ} بالصرف. وابن كثير وأبو عمرو {سبأ} بفتح الهمزة وترك الصرف، فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبإ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال: {سَبَإٍ} اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. وأنشد للنابغة الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون سيله العرما
قال: فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة، ومن صرف وهو الأكثر فلانه اسم البلد فيكون مذكرا سمى به مذكر.
وقيل: اسم امرأة سميت بها المدينة. والصحيح أنه اسم رجل، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي إن شاء الله تعالى. قال ابن عطية: وخفى هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسى سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبإ فقال: ما أدرى ما هو. قال النحاس: وتأول الفراء على أبى عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف.
وقال النحاس: وأبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسى عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا، والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه، لان أصل الأسماء الصرف، وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه، فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف. وذكر كلاما كثيرا عن النحاة وقال في آخره: والقول في {سَبَإٍ} ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلانه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة، لان هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى، لأنه الأصل والأخف.
الثامنة: وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجنب. وكان حكم الاذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت. وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفى عن المسور بن مخرمة. ومثله كثير فلا يطول به.
التاسعة: قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} لما قال الهدهد: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قال سليمان: وما ذلك الخبر؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبإ. ويقال: كيف وخفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهى من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف. ويروى أن أحد أبويها كان من الجن. قال ابن العربي: وهذا أمر تنكره الملحدة، ويقولون: الجن لا يأكلون ولا يلدون، كذبوا لعنهم الله أجمعين، ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت. قلت: خرج أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: قدم وفد من الجن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا.
وفي صحيح مسلم فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن» وفي البخاري من حديث أبى هريرة قال فقلت: ما بال العظم والروثة؟ فقال: «هما من طعام الجن وإنه أتانى وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما» وهذا كله نص في أنهم يطعمون. وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في سبحان عند قوله: {وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ}.
وروى وهيب بن جرير ابن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
العاشرة: روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه، ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبى حنيفة أنها إنما تقضى فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، وهذا هو الظن بأبى حنيفة وابن جرير. وقد روى عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق. ولم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث. وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبى الفرج بن طرار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل. فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى، فإن الغرض منه حفظ الثغور، وتدبير الأمور وحماية البيضة، وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل. قال ابن العربي: وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء، فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وأن كانت برزة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم، وتكون مناظرة لهم، ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده.
الحادية عشره- قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مبالغة، أي مما تحتاجه المملكة.
وقيل: المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا فحذف المفعول، لان الكلام دل عليه. {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير، ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان. قيل: كان من ذهب تجلس عليه.
وقيل: العرش هنا الملك، والأول أصح، لقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها}. الزمخشري: فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم، لان وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عرش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض. قال ابن عباس: كان طول عرشها ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر. قتادة: وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق. مقاتل: كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا، وهو مكلل بالجواهر. ابن إسحاق: وكان يخدمها النساء، وكان لخدمتها ستمائة امرأة. قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
الثانية عشره- قوله تعالى: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قيل: كانت هذه الامة ممن يعبد الشمس، لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى.
وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار.
وروى عن نافع أن الوقف على {عَرْشٌ}. قال المهدوي:
فعظيم على هذا متعلق بما بعده، وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها، أي وجودي إياها كافرة.
وقال ابن الأنباري: {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقف حسن، ولا يجوز أن يقف على {عَرْشٌ} ويبتدئ {عَظِيمٌ وَجَدْتُها} إلا على من فتح، لان عظيما نعت لعرش فلو كان متعلقا بوجدتها لقلت عظيمة وجدتها، وهذا محال من كل وجه. وقد حدثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الأسود العجلى، عن بعض أهل العلم أنه قال: الوقف على {عَرْشٌ} والابتداء {عَظِيمٌ} على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر. قال: وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم. قال ابن الأنباري: والاختيار عندي ما ذكرته أولا، لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل. وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهي الطول والعرض، وجريه على إعراب {عَرْشٌ} دليل على أنه نعته. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} أي ما هم فيه من الكفر. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي عن طريق التوحيد. وبين بهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق. {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} إلى الله وتوحيده.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} بتشديد {ألا} قال ابن الأنباري: {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} غير تام لمن شدد {أَلَّا} لان المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس: هي أن دخلت عليها لا وأن في موضع نصب، قال الأخفش: ب {زَيَّنَ} أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله.
وقال الكسائي: ب {فصدهم} أي فصدهم ألا يسجدوا. وهو في الوجهين مفعول له.
وقال اليزيدي وعلى بن سليمان: أن بدل من {أَعْمالَهُمْ} في موضع نصب.
وقال أبو عمرو: وأن في موضع حفض على البدل من السبيل وقيل: العامل فيها {لا يَهْتَدُونَ} أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم. وعلى هذا القول لا زائدة، كقوله: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} أي ما منعك أن تسجد. وعلى هذه القراءة فليس بموضع سجدة، لان ذلك خبر عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء. وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما: {ألا يسجدوا لله} بمعنى الا يا هؤلاء اسجدوا، لأن يا ينادى بها الأسماء دون الافعال. وأنشد سيبويه:
يا لعنة الله والأقوام كلهم *** والصالحين على سمعان من جار
قال سيبويه: يا لغير اللعنة، لأنه لو كان للعنة لنصبها، لأنه كان يصير منادى مضافا، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان.
وحكى بعضهم سماعا عن العرب: ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا. يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا، فعلى هذه القراءة {اسجدوا} في موضع جزم بالأمر والوقف على {ألا يا} ثم تبتدئ فتقول: {اسجدوا}. قال الكسائي: ما كنت أسمع الأشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الامر.
وفي قراءة عبد الله: {ألا هل تسجدون لله} بالتاء والنون.
وفي قراءة أبى {ألا تسجدون لله} فهاتان القراءتان حجة لمن خفف. الزجاج: وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد. واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد. وقال: التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه. ونحوه قال النحاس. قال: قراءة التخفيف بعيدة، لان الكلام يكون معترضا، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة، لأنه قد حذف منه ألفان، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى بن مريم. ابن الأنباري: وسقطت ألف اسجدوا كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر، ولما سقطت ألف يا واتصلت بها ألف اسجدوا سقطت، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه.
وقال الجوهري في آخر كتابه: قال بعضهم: إن يا في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال: ألا اسجدوا لله، فلما أدخل عليه يا للتنبيه سقطت الالف التي في اسجدوا لأنها ألف وصل، وذهبت الالف التي في يا لاجتماع الساكنين، لأنها والسين ساكنتان. قال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مى على البلى *** ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقال الجرجاني: هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله. أي ألا ليسجدوا، كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قيل: إنه أمر أي ليغفروا. وتنتظم على هذا كتابة المصحف، أي ليس ها هنا نداء. قال ابن عطية: قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله: {الْعَظِيمِ} وهو قول ابن زيد وابن إسحاق، ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع. ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم. ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في {أَلَّا} تعطى أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه، والتخفيف يقتضى الامر بالسجود لله عز وجل للأمر على ما بيناه.
وقال الزمخشري: فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما؟ قلت هي واجبة فيهما جميعا، لان مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، واحدي القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك. قلت: وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم يسجدون كما في الانشقاق وسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك. النمل. والله أعلم. الزمخشري: وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه. {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ} خبء السماء قطرها، وخبء الأرض كنوزها ونباتها.
وقال قتادة: الخبء السر. النحاس: وهذا أولى. أي ما غاب في السماوات والأرض، ويدل عليه {ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ}. وقرأ عكرمة ومالك بن دينار: {الخب} بفتح الباء من غير همز. قال المهدوي: وهو التخفيف القياسي، وذكر من يترك الهمز في الوقف.
وقال النحاس:
وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ: {الذي يخرج الخبا} بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: {الخب في السماوات والأرض} وأنه إن حول الهمزة قال: الخبي بإسكان الباء وبعدها ياء. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه.
وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة، فتقول: هذا الوثو وعجبت من الوثى ورأيت الوثا، وهذا من وثئت يده، وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي، ورأيت الخبا، وإنما فعل هذا لان الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف.
وحكى سيبويه عن قوم من بنى تميم وبنى أسد أنهم يقولون: هذا الخبو، يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة.
وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة، إلا أن هذا عن بنى تميم، فيقولون: الرديء، وزعم أنهم لم يضموا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة، لأنه ليس في الكلام فعل. وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة، وفي قراءة عبد الله {الذي يخرج الخبأ من السماوات} ومن وفي يتعاقبان، تقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم يريد منكم، قاله الفراء. {ويعلم ما يخفون وما يعلنون} قراءة العامة فيهما بياء، وهذه القراءة تعطى أن الآية من كلام الهدهد، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له، وإنكار سجودهم للشمس، وإضافته للشيطان، وتزيينه لهم، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان، من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدى لها. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي {تُخْفُونَ} و{تُعْلِنُونَ} بالتاء على الخطاب، وهذه القراءة تعطى أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قرأ ابن محيصن {الْعَظِيمِ} رفعا نعتا لله. الباقون بالخفض نعتا للعرش. وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ} من النظر الذي هو التأمل والتصفح. {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} في مقالتك. و{كُنْتَ} بمعنى أنت. وقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} ولم يقل سننظر في أمرك، لان الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} صرح له سليمان بقوله: سننظر أصدقت أم كذبت، فكان ذلك كفاء لما قاله.
الخامسة عشرة: في قوله: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} دليل على أن الامام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، لان سليمان لم يعاقب الهدهد حين أعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضى الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد.
وفي الصحيح: «ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل». وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدى ولم يعاقبه. ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة. كما فعل سليمان، فإنه لما قال الهدهد: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} لم يستفزه الطمع، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فغاظه حينئذ ما سمع، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك، فقال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقى جنينها، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال فقال عمر: ايتني بمن يشهد معك، قال: فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال: لا تبرح حتى تأتى بالمخرج من ذلك، فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد. ونحوه حديث أبى موسى في الاستئذان وغيره.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال الزجاج: فيها خمسة أوجه {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} بإثبات الياء في اللفظ. وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها {فألقه إليهم}. وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}. وبحذف الواو وإثبات الضمة {فألقه إليهم}. واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء {فألقه إليهم}. قال النحاس: وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون: يقدر الوقف، وسمعت علي بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه العلة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الاعراب من الأسماء. وقال: {إِلَيْهِمْ} على لفظ الجمع ولم يقل إليها، لأنه قال: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فكأنه قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم، اهتماما منه بأمر الدين، واشتغالا به عن غيره، وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك.
وروى في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران، فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهى- فيما يروى- نائمة، فلما انتبهت وجدته فراعها، وظنت أنه قد دخل عليها أحد، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس، فرأت الهدهد فعلمت.
وقال وهب وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس، فإذا طلعت سجدت، فسدها الهدهد بجناحه، فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه، فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.
وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.
السابعة عشرة: في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام. وقد كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار، كما تقدم في آل عمران.
الثامنة عشرة: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك. بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم، قال وهب بن منبه.
وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع. قال وقوله: {فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ} في معنى التقديم على قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ} واتساق رتبة الكلام أظهر، أي ألقه ثم تول، وفي خلال ذلك فانظر أي انتظر.
وقيل: فاعلم، كقوله: {يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} أي اعلم ماذا يرجعون أي يجيبون وماذا يردون من القول.
وقيل: {فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ} يتراجعون بينهم من الكلام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8